تحتل واقعة اغتيال الجنرال كليبر في تاريخنا الحديث مكاناً مرموقاً في سجلّ الكفاح الشعبي لشعوبنا العربية التي كانت مطمعاً للقوى الاستعمارية الكبرى، فهو خلف قيادة الحملة العسكرية الفرنسية التي قدمت في يوليو عام 1798 لاحتلال مصر، وكان قائداً للجيش الفرنسي في مصر، ومدبراً للأمور السياسية وشؤون البلاد كلها.
المعلومات المتوافرة عن كليبر قليلة جداً، هو من مواليد 9 مارس (آذار) عام 1753 في مدينة ستراسبورغ، عاصمة الألزاس. خاض حروب الثورة الفرنسية كلها، وأظهر فيها مواهب قتالية عالية، فكان من أكفأ ضباط الجيش الفرنسي في زمنه، ومن المقربين إلى نابليون بونابرت، لكنه كان حاقداً عليه، فهو يكبره بستة عشر عاماً ولم يحقق ما حققه نابليون من مجد، ومن أشد المعارضين للحملة على مصر، لأنه كان يعتبرها مجداً شخصياً لنابليون، لكن هذا الأخير كان يعرف بعبقريته أن كليبر قائد عسكري موهوب وأن وجوده على رأس جيش الشرق معه مكسب كبير.
الملاحظ أن المعلومات المتداولة بشأن واقعة اغتيال كليبر بعيدة عن الصواب، وأن أحداثاً كثيرة من تاريخنا العربي والإسلامي يتصدى لها غير المتخصصين الذين يخلطون بين الجد والهزل، وبين الحقائق والخيال.
قاتل مأجور
لدي اليوم «مفاجأة» للقارئ قد تذهله، وهي أن سليمان الحلبي، الشاب السوري الذي قتل كليبر، لم يكن بطلا ولم يقتله انتقاماً منه على إحراقه القاهرة، أو تنكيله بمشايخ الأزهر، أو لأنه محتل غازي لبلاد المسلمين، بل كان سليمان مأجوراً من القادة العثمانيين الذين هزمهم كليبر.
يشكل تاريخ الجبرتي نقطة الفصل التي تحسم أي جدل حول هذه الواقعة، فهو المرجع الوحيد الذي سجّل تاريخ هذه الحقبة الزمنية باليوم والساعة، حتى يبدو لمن يقرأه كأنه يقرأ صحيفة يومية يتابع من خلالها أدق التفاصيل بما فيها أسعار الخضار واللحوم والفاكهة والألبان، وأسعار المعادن النفيسة والعملات الأجنبية، وكل ما يحدث في القطر المصري، فجاء مؤلفه هذا عملا تاريخياً أشاد به كبار المؤرخين الأجانب قبل العرب.
إلى جانب تاريخ الجبرتي، سجلت المراجع الفرنسية أحداث تلك الفترة، خصوصاً أن فضيلة الحملة الفرنسية الوحيدة، هي طابور العلماء والفنانين الذين اصطحبهم نابليون معه إلى مصر، فمسحوا البلاد جغرافياً وتاريخياً وجيولوجياً واجتماعياً، وتركوا بصماتهم البيضاء في مجالاتهم، ووضعوا مؤلف «وصف مصر»، وهو كتاب نادر في محتواه ومضمونه وسبق زمنه، ويعدّ بكل المقاييس أعظم عمل كتب عن مصر حتى زمنه.
اعتمد المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي على المصادر الفرنسية التي أرخت فترة الغزو الفرنسي لمصر، لتحقيق تاريخ مصر الحديث وتحريره منذ نهاية القرن الثامن عشر حتى قيام ثورة يوليو عام 1952، وجاءت مؤلفاته في هذا المجال دقيقة ومحايدة وأشاد بها كل من له علاقة بالتاريخ، لذا ننقل عنه مضمون ما جاء في رواية الجبرتي، وما جاء في المصادر الفرنسية حول حادثة اغتيال كليبر، بعد التحقق من كل واقعة.
حادثة الاغتيال
كان ذلك يوم السبت 14 يونيو سنة 1800، حيث ذهب الجنرال كليبر إلى جزيرة الروضة ليستعرض كتيبة الأروام الذين انخرطوا في سلك الجيش الفرنسي في مصر، وعاد بعد العرض إلى الأزبكية، ليتفقد أعمال الترميم في دار القيادة العامة ومسكن القائد العام، لإزالة آثار الإتلاف الذي أصابها من قنابل الثوار (ثورة القاهرة الثانية)، وكان يصحبه المسيو بروتان، المهندس المعماري وعضو لجنة العلوم والفنون، فتفقدا الأعمال معاً، ثم ذهبا إلى دار الجنرال داماس، رئيس أركان الحرب، حيث أعد وليمة غداء للقائد العام، دعا إليها طائفة من القادة وأعضاء المجمع العلمي ورؤساء الإدارة، فتناول كليبر الغداء مع المدعوين، وكان منشرح الصدر على المائدة، يتحدث مطمئناً على الحالة في مصر.
استمرت الوليمة إلى الثانية بعد الظهر، ثم عاد كليبر بصحبة المهندس بروتان إلى دار القيادة العامة ليستأنفا تفقد أعمال الترميم والإصلاح فيها، وكانت حديقة السراي تتصل بدار الجنرال داماس برواق طويل تظلله تكعيبة من العنب.
سار كليبر وبجانبه بروتان في هذا الرواق يتحدثان في إصلاح السراي، وفي أثناء سيرهما خرج عليهما رجل كان يكمن وراء بئر عليها ساقية، فاقترب من الجنرال كليبر كمن يريد أن يستجديه أو يتوسل إليه، لم يرتَب الجنرال في نية ذلك السائل، لكنه لم يكد يلتفت إليه حتى عاجله القاتل بطعنة خنجر مميتة أصابته في صدره، فصاح الجنرال: إليّ أيها الحارس، ثم سقط على الأرض مضرّجاً في دمه، هنا أسرع المسيو بروتان في تعقب الجاني، فلما أدركه تماسك الإثنان، فطعنه القاتل ست طعنات سقط على أثرها على الأرض بجوار كليبر، وعاد الجاني مرة ثانية إلى كليبر، فطعنه ثلاث طعنات ليجهز عليه، بيد أن الطعنة الأولى كانت القاضية لأنها نفذت إلى القلب.
لاذ الجاني بالفرار وتوارى عن الأنظار مختفياً في حديقة السراي، ولم يبق في مكان الجريمة ما يدلّ على القاتل سوى جزء من عمامته التي تمزقت أثناء صراعه مع بروتان.
أقبل الحارس الذي سمع الصيحة، ولما رأى هذا المنظر الرهيب ولّى مسرعاً إلى دار الجنرال داماس وأخبرهم بما رآه، فأقبل من كانوا موجودين إلى مكان الحادثة، فرأوا الجنرال كليبر مضرّجاً في دمه وبجانبه بروتان مغمياً عليه، من شدة الطعنات التي أصابته، فهالهم ما أبصروه، ونقلوا الجنرال كليبر إلى دار الجنرال داماس، وجاء الطبيب ديجنت كبير أطباء الجيش لإسعافه، فوجده ميتاً.
دهشة واضطراب
انتشر الخبر في القاهرة بسرعة البرق، فتلقاه الأهالي بالدهشة والجزع الشديد لتوقعهم الانتقام والنكال، وتلقاه الجنود الفرنسيون بالغضب والسخط والتحفز للوثبة على الأهالي الأبرياء.
ضرب النفير العام في أحياء القاهرة جمعاً لشتات الجنود، فأقبلوا من كل صوب وحدب إلى ميدان الأزبكية يتنادون بالانتقام والأخذ بالثأر ويهددون بإحراق المدينة، فاستولى الفزع على الناس وأقفلت الدكاكين، وخلت الطرق من المارة، وذهب كل إلى داره يطلب النجاة، من عواقب هذا الحدث الجلل، وأخذت دوريات الجنود تطوف الشوارع والأحياء، خصوصاً المجاورة لمنطقة الأزبكية، للبحث عن القاتل الذي كان متوارياً عن الأنظار، وأخذ جماعة الحراس يبحثون في حديقة السراي لعلهم يعثرون عليه مختبئاً فيها.
بعد ساعة من ارتكاب الجريمة عثروا على القاتل مختفياً في الحديقة الملاصقة لدار القيادة وراء حائط مهدّم. أدركه اثنان من صفّ ضباط الحرس من الملازمين لدار الجنرال كليبر، فحاول الهرب لكنهما قبضا عليه، وساقاه إلى دار رئيس أركان الحرب حيث كان قادة الجيش مجتمعين.
كانت دلائل الجريمة بادية في المكان الذي قبض عليه فيه، فعلى الحائط الذي كان مختفياً وراءه آثار دماء، وملابسه ملوثة بدم الجريمة، وعثروا على الخنجر في المكان الذي قبض فيه على القاتل وعلى نصله دماء القتيل.
لما سيق القاتل إلى منزل الجنرال داماس استجوبه الجنرال مينو، وواجهه بالمهندس بروتان، فتعرّف إليه وأرشد عليه من جماعة من العمال وضع بينهم خصيصاً للتأكد من صحة التعرف، وشهد الشهود بأن القاتل كان يتبع خطوات الجنرال كليبر منذ أيام عدة، فقد رأوه في الجيزة يسعى إلى الدخول إلى مقر القائد العام بحجة تقديم عريضة إليه، ولكن المسيو بيروس، سكرتير كليبر الخاص، رفض الإذن له بالمقابلة.
طالب من حلب
وفي صباح يوم الجريمة اندسّ القاتل بين جماعة من الخدم، ورآه الياور ديفوج أحد ياوران كليبر، فظنّ أنه من العمال الذين يشتغلون في عمارة السراي، فأمر بطرده من الحديقة.
مع هذه البيانات القاطعة كان القاتل ينكر الجريمة، فاتبع معه برتلمي الرومي طريقة التعذيب لإكراهه على الاعتراف، وأخذ في ضرب القاتل حتى اعترف بجريمته وأبان عن شخصيته، فإذا هو طالب علم من حلب في الرابعة والعشرين من عمره اسمه سليمان الحلبي، أبوه تاجر من حلب اسمه الحاج محمد أمين، غادر بلدته في سورية وذهب إلى بيت المقدس، ثم حضر إلى القاهرة خصيصاً لقتل كليبر وقضى فيها واحداً وثلاثين يوماً.
تبين من اعتراف القاتل في التحقيق وأمام المحكمة أن القتل وقع بتحريض رؤساء الجيش العثماني، ذلك أن الحلبي التقى في القدس ضابطاً من ضباط الجيش العثماني اسمه «أحمد أغا» يعرفه القاتل منذ كان رئيساً للإنكشارية في حلب، وكان هذا الضابط معزولا من وظيفته، وجاء إلى القدس سعياً إلى مقابلة الصدر الأعظم ليلتمس منه إعادته إلى منصبه، فالتقى به سليمان الحلبي وشكا إليه مظالم إبراهيم باشا والي حلب، وإرهاقه لوالده وإجباره على أداء غرامات فادحة، وطلب من أحمد أغا أن يشفع لوالده ليرفع عنه ما لحق به من ظلم، فوعده أحمد أغا بمساعدته وإنصاف والده على أن يسافر إلى مصر ويغتال قائد الجيش الفرنسي، وكان هذا الحديث بعد رجوع الجيش العثماني منهزماً إلى سورية، فقبل سليمان الحلبي، فأرسله أحمد أغا إلى ياسين آغا، حاكم غزة وأوصاه بأن يعطيه ما يحتاج إليه من المال ليسافر إلى مصر.
سافر الحلبي من القدس إلى الخليل ومنها إلى غزة، وقابل ياسين آغا فوعده برفع المغارم عن أبيه، وأعانه بالمال، وسافر من غزة إلى مصر بصحبة قافلة من التجار، فأدرك القاهرة في ستة أيام، وبلغها يوم 14 مايو.
كان يعرف المدينة سابقاً إذ قضى فيها ثلاث سنوات يطلب العلم في الأزهر، فنزل عند وصوله في دار معلم تركي (خطاط) اسمه مصطفى أفندي البروسلي، وهو شيخ يبلغ الثمانين، كان يتعلم القاتل على يده في صغره، فنزل في داره وبات لديه أول ليلة، لكنه لم يفضِ إليه بعزمه، ثم انتقل وسكن الجامع الأزهر وانتظم في سلك طلبة العلم.
قضى في الأزهر نحو ثلاثين يوماً، وأفضى بعزمه إلى أربعة من الطلبة، وهم: أحمد الوالي، ومحمد الغزي، وعبدالله الغزي، وعبدالقادر الغزي، (ليسوا أشقاء، بل ملقبون باسم بلدهم غزة) فأنكر الأربعة عليه هذا العزم ورموه بالطيش والجنون، ونصحوه بالإقلاع عن عزمه، فلم يسمع لنصحهم. ذهب مساء 13 يونيو إلى الجيزة حيث كان كليبر، واستفهم من النوتية الذين في خدمة الجنرال عن موعد خروجه، فأخبروه أن هذا الأخير يتروض في مساء كل يوم في حديقة سراي القيادة العامة بالأزبكية.
حاول سليمان الحلبي دخول الحديقة في ذلك المساء فلم يفلح، وقضى الليلة في أحد المساجد، وفي صباح 14 يونيو تتبع خطوات الجنرال، فسار إثره إلى الروضة (منطقة المنيل) ثم عاد وراءه إلى القاهرة، وتمكن من التسلل إلى حديقة القيادة العامة، ووصل إلى الرواق الذي ارتكب فيه الجناية.
لما اعترف القاتل بجنايته، أُمر بالقبض على الأزهريين الأربعة الذين وردت أسماؤهم في أقواله، فاعتقل منهم ثلاثة وفرّ الرابع (عبدالقادر الغزي)، واستجوب الثلاثة فأنكروا ما نسبه القاتل إليهم.
التحقيق والمحاكمة
أصدر الجنرال مينو (كان قومندان القاهرة وأقدم جنرالات الحملة الفرنسية في مصر وخلف كليبر في قيادتها) في اليوم نفسه أمراً بتشكيل محكمة عسكرية لمحاكمة قتلة كليبر، مؤلفة من تسعة أعضاء من كبار رجال الجيش برئاسة الجنرال رينيه، وعهد إلى القوميسير سارتلون، مدير مهمات الجيش، القيام بوظيفة المدعى العمومي، وانعقدت المحكمة يوم 15 يونيو، وقررت أن يتولى الجنرال رينيه والقوميسير سارتلون إجراء التحقيق وجمع البيانات للوصول إلى معرفة المتهمين.
تولى القوميسير سارتلون التحقيق في القضية، فكتب محضراً باستجواب سليمان الحلبي عقب الحادثة واستجواب المتهمين الآخرين، وأخذ في سماع أقوال الشهود. قال جوزيف بيران، من فرسان الحرس، إنه هو والفارس روبرت عثرا على القاتل مختبئاً في الحديقة وراء حائط متهدم عليه آثار الدماء، وأن القاتل كان ملوثاً بالدم أيضاً، فقبضا عليه وهو في هذه الهيئة، وأنهما عثرا بعد ساعة من اعتقال الجاني على خنجر مدفون في المكان الذي كان مختبئاً فيه وعلى نصله دماء.
انتقل المحقق بعد ذلك إلى دار المهندس بروتان الذي كان يرافق الجنرال كليبر وقت الجريمة، وكان طريح الفراش بسبب الإصابات التي لحقت به، فشهد برؤيته القاتل يرتكب الجناية، وقال إنه ضربه بعصا ليدافع عن الجنرال كليبر، فانقضّ عليه القاتل وطعنه طعنات عدة، فسقط بعدها على الأرض مغشياً عليه، وأشار إلى أنه بعد صياحه وصياح الجنرال كليبر بقي عشر دقائق قبل أن تصلهما النجدة، وأنه تعرّف على القاتل بعد القبض عليه.
سمع المحقق أقوال الملازم ديفوج، ياور الجنرال كليبر، فقال إنه في يوم الحادثة كان يصاحب الجنرال في تفقده دار القيادة العامة بالقاهرة، وأن القاتل كان لا ينفكّ يتعقب الجنرال وكانوا يظنون أنه أحد العمال الذين يعملون في ترميم السراي، فلم يرتابوا في شأنه، لكنه لاحظ أن القاتل تعقّب الجنرال بعد أن خرج من حديقة السراي قاصداً دار الجنرال داماس، رئيس أركان الحرب، فسأله عما يريد وأمر بطرده، وطرده الخدم فعلا، وبعد ساعتين وقعت الجناية.
سجل ديفوج في أقواله أنه لاحظ وجود جزء من ملابس القاتل تركه في مكان الجريمة فتعرّف عليه، وتأكد من ملابس هذا الأخير بعدما قبض عليه ووجد جزءاً من ملابسه ممزقاً.
أعاد المحقق استجواب سليمان الحلبي، وكان يتولى الترجمة المسيو براسفيش كبير مترجمي القائد العام، فكرّر المتهم اعترافاته السابقة، واقر بأن المحرّضَين له على القتل هما أحمد أغا وياسين أغا، من ضباط الجيش العثماني، وأن أحمد أغا اختاره لأنه يعرف القاهرة معرفة تامة حيث قضى فيها ثلاث سنوات في طلب العلم بالأزهر، وأنه كاشف الأزهريين الأربعة بعزمه، وكان يفضي إليهم به يومياً، لكنهم كانوا ينصحونه بالإقلاع عن عزمه لاستحالة نجاحه.
أمر المحقق بمواجهة سليمان الحلبي بالأزهريين الثلاثة المقبوض عليهم واستجوبهم في ما قرره بشأنهم، وكان يرتاب في مسلك علماء الأزهر خصوصاً الشيخ الشرقاوي، شيخ الجامع، في أن يكون لهم دور تحريضي، وكان سير التحقيق متجهاً إلى جمع البيانات لإثبات علم الشرقاوي بنية القاتل قبل ارتكاب الجناية، لكن التحقيق لم يسفر عن إدانة الشيخ الشرقاوي أو غيره من كبار علماء الأزهر.
عقوبة الموت
أسفر التحقيق عن اتهام سليمان الحلبي والأزهريين الأربعة الذين أفضى إليهم بعزمه على ارتكاب الجناية، كذلك مصطفى أفندي البروسلي الذي بات لديه سليمان حين حضوره إلى مصر، فكان عدد المتهمين ستة، ولما كان أحد الأزهريين الأربعة وهو عبدالقادر الغزي هارباً، حوكم غيابياً.
طلب المدعي العمومي من المتهمين أن يعهدوا بالدفاع عنهم إلى رجل يترافع أمام المحكمة فأجابوا أنهم لا يعرفون أحداً، فانتدب للدفاع عنهم المترجم لوماكا.
انعقدت المحكمة العسكرية يوم 16 يونيو، وأخذت في سماع مرافعة المدعي العمومي ودفاع المتهمين، وطلب المدعي العمومي بتوقيع العقاب على القاتل وشركائه، ونسب الجريمة إلى الصدر الأعظم يوسف باشا، وقال إن الذي تولى إغراء سليمان على القتل هو أحمد أغا الذي كان مغضوباً عليه من الوزير، فأراد التقرّب منه بهذا العمل الفظيع لينال رضاه، وإن القاتل اندفع إلى القتل تحت تأثير هذا التحريض، وإن تهمة المشايخ الأربعة بعلمهم بنية القاتل وتصميمه عليها، ومع ذلك لم يخبروا ولاة الأمور بعزمه، فهم يعتبرون شركاء للقاتل في جريمته، وطلب البراءة لمصطفى أفندي لأنه لم يثبت علمه بالجريمة، وطلب الحكم على سليمان الحلبي بحرق يده اليمنى التي باشر بها القتل، ثم إعدامه على الخازوق وترك جثته تأكلها جوارح الطير، وبالنسبة إلى المشايخ الأربعة طلب قطع رؤوسهم.
وبعد أن تمت المرافعة طلبت المحكمة من المتهمين أن يدافعوا عن أنفسهم فلم يردوا بشيء، فأعيدوا إلى السجن، وأمرت المحكمة بإخلاء القاعة، واختلت للمداولة.
ثم أصدرت المحكمة حكمها باعتبار سليمان الحلبي وشركاءه الأربعة مذنبين، وبراءة مصطفى أفندي وإطلاق سراحه، وحكمت بإحراق يد سليمان الحلبي اليمنى، ثم إعدامه على الخازوق وترك جثته تأكلها الطير، وبراءة سليمان أفندي وإطلاق سراحه، وإعدام شركائه الأربعة بقطع رؤوسهم وإحراق جثثهم بعد الإعدام، مع مصادرة أموال المتهم الغائب عبدالقادر الغزي.
يقول الجبرتي:
«ولما فرغوا من ذلك اشتغلوا بأمر ساري عسكرهم المقتول وذلك بعد موته بثلاثة أيام، كما ذكر، ونصبوا مكانه عبد الله جاك منو ونادوا ليلة الرابع من قتلته (مقتله) وهي ليلة الثلاثاء الخامس والعشرين من المحرم (18 يونيو1800م) في المدينة بالكنس والرش في جهات حكام الشرطة.
فلما أصبحوا اجتمع عساكرهم وأكابرهم وطائفة عينها القبط والشوام وخرجوا بموكب مشهده ركباناً ومشاة وقد وضعوه في صندوق من رصاص مسنّم الغطاء ووضعوا ذلك الصندوق على عربة وعليه برنيطته وسيفه والخنجر الذي قتل به وهو مغموس بدمه، وعملوا على العربة أربعة بيارق صغار في أركانها معمولة بشعر أسود، ويضربون بطبولهم بغير الطريقة المعتادة وعلى الطبول خرق سود، والعسكر بأيديهم البنادق وهي منكّسة إلى أسفل وكل شخص منهم معصب ذراعه بخرقة حرير سوداء، ولبسوا ذلك الصندوق بالقطيفة السوداء وعليها قصب مخيش، وضربوا عند خروج الجنازة مدافع وبنادق كثيرة وخرجوا من بيت الأزبكية على باب الخرق (باب الخلق) إلى درب الجماميز إلى جهة الناصرية، فلما وصلوا إلى تل العقارب حيث القلعة التي بنوها هناك ضربوا عدة مدافع وكانوا أحضروا سليمان الحلبي والثلاثة المذكورين فأمضوا فيهم ما قدر عليهم ثم ساروا بالجنازة إلى أن وصلوا باب قصر العيني، فرفعوا ذلك الصندوق ووضعوه على علوة من التراب بوسط تخشيبة صنعوها وأعدوها لذلك وعملوا حولها درابزين وفوقه كساء أبيض وزرعوا حوله أعواد سرو، ووقف عند بابها شخصان من العسكر ببنادقهما ملازمان ليلاً ونهاراً يتناوبان الملازمة على الدوام، وانقضى أمره واستقر عوضه في السرّ عسكرية قائمقام عبد الله جاك منو، وهو الذي كان متولياً على رشيد من قدومهم، وقد كان أظهر أنه أسلم وتسمى بعبد الله وتزوج بامرأة مسلمة».
ويبقى السؤال هل كان سليمان الحلبي قاتلاً مأجوراً أم بطلاً حقيقياً، حقيقة ستظل ملتبسة لدى الباحثين وواضحة لدى آخرين لكن المؤكد أن الحلبي سيظل جزءاً مهماً من تاريخ الشعوب العربية.